صراع نتنياهو والشاباك- أزمة سياسية تهدد استقرار إسرائيل؟

أصول الصراع
في الثامن من أبريل/نيسان عام 2025، شهدت الساحة السياسية في إسرائيل تحولاً بالغ الأهمية، إذ أصدرت المحكمة العليا قراراً يقضي بتجميد قرار إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، رونين بار، ومنع تعيين أي بديل له في الوقت الراهن.
لم يكن هذا القرار مجرد تدبير قضائي روتيني، بل كان بمثابة نقطة تحول حاسمة في صراع متأصل يتجاوز حدود الأسماء والمناصب، ويعكس أزمة سياسية وقانونية متفاقمة منذ سنوات عديدة. يأتي هذا في وقت حساس تواجه فيه إسرائيل تحديات جمة، بما في ذلك حرب خارجية طاحنة وانقسام داخلي عميق يهدد بتقويض استقرارها.
وتعود جذور هذا الصراع المحتدم إلى الإخفاقات التي شابت السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، وتبعاتها من توترات حادة بين المؤسسة الأمنية والمكتب السياسي، وصولاً إلى التحقيقات المثيرة للجدل في قضية "قطرغيت" التي طالت الدائرة المقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وجاء قرار المحكمة العليا بمثابة صفعة قانونية قوية لمحاولة نتنياهو لإعادة تشكيل رأس جهاز أمني بالغ الحساسية في هذا التوقيت العصيب. ويعكس هذا القرار نزعة متكررة لدى نتنياهو لتقويض أي شكل من أشكال الرقابة المؤسسية.
قرار المحكمة: نكسة لنتنياهو
لقد جمّد قرار المحكمة العليا محاولة نتنياهو لعزل رونين بار، مما أثار موجة من ردود الفعل الغاضبة والتنديد في صفوف اليمين الإسرائيلي، وفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة دستورية غير مسبوقة. وعلاوة على ذلك، منعت المحكمة تعيين أي بديل لبار، مما يعني أن نتنياهو فقد مؤقتًا القدرة على التأثير المباشر في قيادة جهاز الشاباك.
وفي معرض تعقيبه على القرار، وصف نتنياهو الحكم بأنه "مثير للحيرة والخطورة"، بينما اعتبرته المعارضة انتصارًا مدويًا للديمقراطية وسيادة القانون. وفي المقابل، رأى وزراء من اليمين المتشدد في القرار تهديدًا واضحًا للسلطة التنفيذية.
ويكشف هذا القرار بجلاء عن محدودية قدرة نتنياهو على فرض إرادته داخل مؤسسات الدولة، لا سيما في ظل الرقابة القضائية الصارمة والضغوط الداخلية والدولية المتزايدة.
ولعل الأهم من ذلك هو أن المحكمة العليا أعادت التأكيد على الحدود التي لا يمكن تجاوزها بين السلطتين التنفيذية والقضائية. فبحسب الدستور غير المكتوب لدولة إسرائيل، لا يملك رئيس الحكومة صلاحيات مطلقة في إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية، خاصة في زمن الحرب أو الأزمات.
والجدير بالذكر أن المحكمة العليا سبق لها أن تصدت لقرارات مماثلة في عهد حكومات سابقة، إلا أن هذا الموقف اكتسب هذه المرة زخمًا أكبر؛ نظرًا للتوقيت الحرج والتوتر الداخلي المتراكم منذ محاولة تقليص سلطات المحكمة في عام 2023، وهو ما يعكس نزعة متكررة لدى نتنياهو لتقويض أي رقابة مؤسسية.
دوافع نتنياهو وبار
إن الصراع الدائر بين نتنياهو ورونين بار ليس مجرد خلاف حول الأداء الأمني، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمكانة كل طرف داخل النظام السياسي. فنتنياهو يسعى جاهدًا لتعيين شخصية موالية له قادرة على تعطيل أو توجيه مجرى التحقيقات، سواء تلك المتعلقة بـ "قطرغيت" أو الإخفاق الأمني الذريع في السابع من أكتوبر.
من جانبه، يتمسك رونين بار بشدة باستقلالية جهاز الشاباك، ويرفض أي تدخل سياسي في عمل الجهاز، خاصة في هذه الفترة الحساسة والحرجة. ولم يؤثر هذا الصراع على العلاقة بين الطرفين فحسب، بل زاد الضغط على جهاز الشاباك الذي يعمل في ظل ظروف أمنية معقدة للغاية. فالشكوك المتبادلة بينهما، وتصاعد الخلاف حول المسؤولية عن إخفاقات الماضي، جعلا من هذه المواجهة مسألة وجودية بالنسبة للطرفين.
ومن الجدير بالذكر أن علاقة نتنياهو بالأجهزة الأمنية لطالما اتسمت بالتوتر والريبة. ففي محطات عديدة سابقة، اصطدم مع رؤساء جهاز الموساد والجيش، مثل صداماته العنيفة مع رئيس الموساد يوسي كوهين في عام 2020، متهمًا إياهم بالولاء للنخبة القضائية على حساب الحكومة المنتخبة.
علاوة على ذلك، تشير تسريبات صحفية متتالية إلى أن نتنياهو يهدف منذ سنوات إلى إعادة هيكلة شاملة للأجهزة الأمنية، إلا أن الظروف السياسية المناسبة لم تتوفر له حتى اندلاع الحرب الأخيرة.
إستراتيجية نتنياهو لتفادي الأزمة الدستورية
على الرغم من حدة الصدام، يتجنب نتنياهو بحذر دفع إسرائيل مباشرة نحو أزمة دستورية مفتوحة، ويبدو أنه يراهن على تخوف خصومه من الانزلاق إلى هاوية الاستقطاب الحاد والانقسام العميق.
ويعتقد نتنياهو أن المحكمة العليا والمعارضة تفضلان الحفاظ على استقرار الدولة في زمن الحرب، بدلاً من الدخول في مواجهة تهدد مؤسسات الدولة برمتها. كما أن قرار المحكمة المؤقت بتجميد الإقالة دون حسم نهائي يعكس هذا التردد والانكفاء.
في المقابل، يحاول نتنياهو كسب المزيد من الوقت، معتمدًا على الضغط التدريجي والتعبئة السياسية، دون أن يظهر تصعيدًا مباشرًا قد يضره على الصعيدين الداخلي والدولي. ولعل تراجعه عن التصعيد المباشر بعد صدور القرار، واكتفاءه بتصريحات معتدلة، يعكسان هذا الرهان على التردد المقابل.
أصداء القرار: انقسام النخبة
لم تخلُ الساحة السياسية والقانونية في إسرائيل من مواقف لافتة حيال هذا القرار، مما يعكس حجم التوتر والاحتقان الذي تشهده الدولة. فقد وصف رئيس المعارضة يائير لبيد القرار بأنه "خطوة حاسمة لإنقاذ الديمقراطية من قبضة نتنياهو"، محذرًا من المحاولات المحتملة لتجاوز القضاء.
في المقابل، هاجم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش القرار بشدة، معتبرًا إياه "تدخلًا غير شرعي في صلاحيات الحكومة المنتخبة". ومن الناحية القانونية، أشارت القاضية المتقاعدة دوريت بينيش إلى أن "التردد القضائي قد يكون نعمة ونقمة في آن واحد، فهو يحافظ على الاستقرار، ولكنه يؤجل الحسم في وقت تحتاج فيه إسرائيل إلى توازن قوي". وتعكس هذه الآراء حجم الجدل والنقاش المحتدم الذي أثاره هذا القرار في الأوساط السياسية والقانونية.
كما صدرت تصريحات من شخصيات أمنية سابقة، مثل يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الشاباك، الذي أعرب عن قلقه إزاء محاولات تسييس الجهاز، معتبرًا أن الحفاظ على الحياد الأمني شرط أساسي لبقاء إسرائيل كدولة قانون. وأضاف في حديث لإذاعة الجيش: "عندما يصبح تعيين رئيس الشاباك شأنًا سياسيًا صرفًا، فإن الديمقراطية تكون قد تلقت ضربة قاصمة".
تداعيات الصراع على إسرائيل
لقد ترك الصراع المحتدم بين نتنياهو ورونين بار أثرًا واضحًا على الجبهة الداخلية في إسرائيل. فالمظاهرات التي شهدتها القدس عقب صدور القرار القضائي أظهرت انقسامًا حادًا في الشارع الإسرائيلي، بين من يساند القضاء ومن يعتبره جزءًا من "الدولة العميقة" التي تعرقل إرادة الناخبين.
وفي المقابل، حرص نتنياهو على التقليل من حدة التصريحات العلنية، في محاولة للظهور بمظهر رجل الدولة الحريص على الاستقرار وتوحيد الصفوف. وعلى الصعيد الخارجي، أثار هذا الصراع قلقًا أميركيًا وأوروبيًا، مما قد يؤثر سلبًا على الدعم العسكري لإسرائيل في حربها المستمرة في غزة.
فالإدارة الأميركية، بقيادة الرئيس جو بايدن، أبدت انزعاجًا بالغًا من احتمال تآكل الاستقرار الديمقراطي في إسرائيل، وهو الأمر الذي قد يعيق التنسيق الأمني الوثيق بين البلدين. وفي السياق ذاته، حذرت دول أوروبية كبرى، مثل فرنسا وألمانيا، من أن استمرار الأزمة قد يضعف موقف إسرائيل في المحافل الدولية، خاصة مع تصاعد الضغوط حول الأوضاع المأساوية في غزة.
كما أشار محللون في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إلى أن يهود الشتات، وخاصة في الولايات المتحدة، بدأوا يعبرون عن قلق متزايد إزاء التحولات التي تشهدها الساحة الداخلية في إسرائيل، معتبرين أن تراجع استقلالية الأجهزة الأمنية سيؤثر سلبًا على دعمهم السياسي والمادي لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، استغلت جهات إقليمية معادية، كإيران وحزب الله، هذا الانقسام الداخلي لتصويره كعلامة ضعف استراتيجي.
الصراع: مرآة لهوية الدولة
لقد تجاوزت المعركة بين نتنياهو ورونين بار إطارها القانوني الضيق لتتحول إلى مرآة تعكس صراعًا أعمق وأشمل على هوية الدولة الإسرائيلية. فهل هي دولة قانون ومؤسسات راسخة أم دولة زعيم وتيار سياسي؟ وهل ما زال الأمن فوق السياسة، أم أن الأجهزة الأمنية أصبحت مجرد أدوات طيعة في يد من يحكم؟
ويعكس هذا الصدام المستفحل الانقسام المتجذر بين من يؤمنون بالدولة الديمقراطية القائمة على التوازن الدقيق بين السلطات، وبين من يسعون إلى دولة أكثر تطرفًا تتماهى مع تيارات دينية وقومية متشددة ترفض أي قيود مؤسسية.
وفي هذا السياق، تبرز محاولات نتنياهو المتكررة لإعادة تعريف "الدولة العميقة" على أنها خصمه المركزي، بينما ترى المعارضة أن التفكيك المتدرج لمكانة جهاز الشاباك والموساد والجيش يهدد جوهر العقد الاجتماعي الذي قامت عليه دولة إسرائيل.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة إقالة عادية، بل هو معركة حاسمة على تعريف من يملك الكلمة الأخيرة في مستقبل الدولة. فهل تبقى إسرائيل دولة المؤسسات والقانون، أم أنها ستتحول إلى دولة الفرد الواحد؟
في نهاية المطاف: من المنتصر في هذا الصراع؟
حتى الآن، تبدو المحكمة العليا وكأنها قد أحرزت جولة دفاعية مهمة، ولكنها لم تحسم المعركة بشكل قاطع. فنتنياهو يراهن على أن خصومه سيتراجعون تحت وطأة الخوف من انفجار داخلي مدمر.
وفي نهاية المطاف، يبقى هذا الصراع اختبارًا حقيقيًا لمن يملك اليد العليا: القانون أم السياسة؟ والسؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يستطيع رئيس الحكومة استغلال حالة التردد القضائي والسياسي هذه لصالحه؟ أم أن هذه المعركة ستتحول إلى نقطة البداية لتآكل سلطته ونفوذه؟
الأيام القادمة كفيلة بالكشف عن حقيقة ما سيحدث، ولكن المؤكد هو أن إسرائيل قد دخلت فصلاً جديدًا من اختبار توازن القوى بين الأمن والقضاء والسياسة. ومهما كانت نتيجة هذه الجولة، يبدو أن إسرائيل قد أصبحت محكومة بصراع مزمن بين مؤسساتها، حيث لا غالب دائمًا ولا سلطة مطلقة.